زعموا أنه كانت توجد بقعة نائية خالية، لا يكاد يبدو فيها أثر للحياة، ولا يكاد يسمع فيها سوى شدو بلبل أو تغريد عصفور.
هبت على تلك البقعة ريح خفيفة أخذت تعبث بأوراق الشجر، ثم اشتدت الريح رويداً وحملت في طياتها همساً ما زال يشتد حتى أضحى جدلاً صاخباً، وحواراً عنيفاً بين ثلاث قوى تتنازع الحكم وتزعم لنفسها السلطان.
هتفت إحداها بصوت حلو رنان:
- أي سلطان في هذه الحياة لغيري، من الذي أذل الأعناق واسترق النفوس سوى سلطان المال، من الذي ملك على اإنسان عقله وسلبه رشده، من الذي تحكم فيه فحركه كما يشاء، من الذي عبده الإنسان من دون الله؟
وأجاب صوت ساحر نفّاذ يصل إلى أعماق النفوس:
- أنا الذي ملكت على الإنسان نفسه، أنا الذي أضاع الإنسان عمره في البحث عنه، سل أي امرئ عن الشهرة، يجبك أنها أمتع شئ في هذه الحياة، سل أي امرئ عن اللذة التي يشعر بها عندما يشير إليه الناس ويهمسون: "هذا هو الرجل العظيم"، وخيره بين شهرته وبين أن تهبه مال قارون، تجده يضرب بسلطان المال عرض الحائط، ويقبض على الشهرة بالنواجذ.
- يا للغباء ! إن صاحب المال لا يعجز عن ابتياع الشهرة.
- قد يستطيع ابتياع الشهرة الكاذبة الزائفة، أما الشهرة الحقة، فهي هبة أغدقها على من يروقني تمييزهم عن غيرهم من الناس.
وهنا قال صوت ثالث، يفيض بالرقة والعذوبة كأنه لحن يطرب النفوس ويهز القلوب:
- يا للحمق والغرور ! تتحثان عن سلطانكما، وهو ذرة في سلطاني، ألم تسمعا الإنسان يقول: "الحياة الحب والحب الحياة"، أسمعتماه مرة يقول إن الحياة هي المال أو الحياة هي الشهرة؟ سلا أي امرئ عن من غيّر الكون في عينيه فجعله ناضراً مزدهراً، سلاه عمن ملأه بالقوة والأمل، وعمن أضاء له سبيل الحياة بعد ظلمة حالكة، سلاه عن سلطان الحب، وهل ينتصر في هذه الدنيا سواه؟
واحتدمت المناقشة واشتد الجدل، واختلطت الأصوات حتى لم يعد المرء يميز فيها سوى خليط من الصيحات والصرخات، وأخيراً سمع صوت سلطان الحب وهو يهتف:
- إني أتحداكما، وأقبل النزال، ليس فقط مع أحدكما، بل مع كليكما، لتتحدا سوياً ولتأتلفا معاً، فتكونا حليفين، وأنا زعيم بأن أبرهن لكما على أن سلطانكما الذي تدعيانه هباء في هباء.
وتحالف سلطان المال وسلطان الشهرة، وقبلا ذلك التحدي من سلطان الحب، واتفق الفريقان على أن يحشد كل منهما قواه ويشحذ أسلحته، على أن يكون اللقاء في ميدان للقتال تم الاتفاق عليه.
نحن الآن في ميدان القتال، وهو ليس بنجاد ولا وهاد، ولا حقول ولا صحراء، بل هو مخلوق آدمي اختارته القوى الثلاث ليكون مظهراً لقدرتها ومقياساً لسلطانها، والرابح من الفريقين من استطاع السيطرة عليه والتحكم فيه وطرد الفريق الآخر من قرارة نفسه فاشلاً مخذولاً.
وكان ميدان القتال فتى في مقتبل العمر، مليء النفس بالأمل. ولكن تصاريف الحياة كدته وأوهنت قواه، وتركته حائراً مغموراً.
استلقى الفتى على فراشه خاوي البطن والذهن والفؤاد، ونظر من خلال النافذة إلى النجوم التي تلمع في ظلمة السماء، وسأل نفسه عما يأمل في هذه الحياة .. وأي خير يرجوه منها إذا استمر هذا الجوع، جوع القلب وجوع النفس !.
لقد كان أشد ما يؤلمه أن يرى نفسه مهملاً في ميدان الحب، فما من فتاة أقبلت عليه مرة، وما من فتاة أنعمت عليه بابتسامة، فكلهن ينفرن منه ويتجنبنه ويعاملنه بالغلظة والقساوة.
ترى هل ذلك لعجزه عن استمالتهن، أم أن السبب قلة ماله، أو قلة وسامته؟
وعصف اليأس بنفس الفتى، وفاض به الشجن، فقد كان فشله في اجتذاب الجنس الآخر يوهن من نفسه، ويحط من قوته.
وخيل إليه فجأة أن النافذة تحمل إليه صوتاً يسري مع النسيم، فأنصت، فإذا الصوت يهتف به:
- أيها التافه الأحمق، ماذا يخيفك منهمن وماذا يفزعك، وهن أحقر من أن يجلبن الوجيعة والألم ! أخرجهن من قلبك، فمكانهن تحت القدم، لا داخل القلب، أقبل على نفسك، فهي أحق منهن بالإقبال، إياك وما يسمونه الحب، فهو بريق زائف وسراب خلب، لا تجر وراء أوهام كاذبة وأحلام تمحوها اليقظة، سر في الحياة بلا قلب، فما اتفق القلب والعقل قط، واقتل ما في نفسك من شعور وإحساس فإنها سوس ينخر عظامك، وجراثيم تفتك بجسدك، ولو برأت منها لاستطعت أن تمسك الدنيا كلها بين يديك، ولأصبحت خير الرجال في هذه الأرض.
ومنذ ذلك اليوم والفتى تغير وتبدل، وغاضت من نفسه الرقة ونضب الشعور، وأضحى يقابل جفاء النساء بجفاء مثله وأشد، وأغمض عينيه عن كل ما فيهن من إغراء وفتنة .. وبدأ يسير في الحياة وهو مغلق القلب جامد الحس .. وأخذت تلك القوة الكامنة في قلبه تتسرب إلى رأسه .. وتحول جهاده في الحب إلى جهاد في سبيل المال والشهرة.
لقد خيل إليه أن به نقصاً يصرف ربات الجمال عنه، فصمم على أن يكون شيئاً في هذه الحياة .. أو لا يكون قط.
ودهش الناس لما أصاب الفتى .. فقد بدأ الحظ يبتسم له .. وبدا لهم منه نبوغ وعبقرية .. ومرت الأيام فإذا الفتى المغمور قد أضحى نجماً ساطعاً .. وإذا به صاحب منصب خطير ومال وفير.
واشتهر الفتى بشدة كرهه للنساء ونفوره منهن .. فقد كان يحذرهن كما يحذر السليم الأجرب .. ويتجنبهن كما يتجنب المرء أفعى ذات سم زعاف.
وهبت الريح في البقعة النائية .. فحملت ضوت سلطاني المال والشهرة وفيه نشوة الانتصار، وقال أولهما للآخر:
- يا لسلطان الحب الأحمق المغرور! أية هزيمة منكرة تلك التي حاقت به .. لقد انهارت سطوته وزال ملكه .. وعرف الإنسان أنه مخادع محتال .. واكتشف أن نعيمه زيف وبريقه خداع ..
وفي تلك اللحظة كان الفتى يقف وعلى وجهه عبوس وفي نظراته جد وقسوة .. وقد ركعت أمامه فتاة بالية الثياب رثة المنظر، بدت في وجهها صفرة مرض وبؤس وفاقة وقد أخذ جسدها يهتز من فرط البكاء وهي تصيح:
- إني لم أجرم ولم أسرق .. إنني أريد أن أعيش .. أريد ما أسد به رمقي.
ولم يلن وجه الفتى ولم تبد عليه بادرة شفقة أو رحمة، بل أشار بيده إلى بعض الخدم فأبعدوها عن أقدامه .. وزج بها في السجن فقد كانت سارقة أثيمة.
وخلا الفتى إلى نفسه فأحس بخلجة في قلبه .. فقد بدأ يتحرك بعد طول سكون .. كان فظاً قاسياً على الفتاة المسكينة فلم يرحم ضعفها وبؤسها .. لقد صمم على أن يعرض عن النساء وقسو عليهن .. ولكن هذه ليست امرأة .. إنها هيكل بائس محطم .. دفعه بقية أمل في الحياة إلى أن يسرق ليسد رمقه .. لشد ما أخطا فيما فعل .. لقد كان جامد الحس والقلب والعقل !!
ولم ينم الفتى ليلته .. واشتد به وخز الضمير .. وذهب عنه ذلك الجحود والقسوة .. وعاد إليه قديم رقته.
وكان أول ما فعله أن راح يزور الفتاة في سجنها خفية .. ليخفف من لوعتها ويرفه عنها .. وتكررت زيارته لها .. إذ تبين فيها نفساً رقيقة .. شديدة الصفاء .. وتبين أكثر من ذلك أن بالفتاة فتنة أخفتها الفاقة .. وسحراً حجبه البؤس المضني.
ومرت الأيام فإذا بالفتى الحذر قد كلف بالفتاة وأحبها.
واستمر بعد ذلك يزورها في بيت أبقاها فيه تحت جنح الظلام .. حتى ملّ أخيراً ذلك التستر .. وعزم على أن يرفعها حيث هو .. وقرر الزواج منها .. ضارباً بأقوال الناس عرض الحائط.
وأخذت المرأة بمظاهر النعمة والرفاهة، وأغراها الجاه والمال .. فإذا بها تصنع بالفتى ما صنعت الأفعى بالرجل الذي حملها من البرد القاتل فأدفأها في داره .. فما أن أحست بالدفء وانتعشت؛ حتى كان الرجل أول من لدغته .. أجل لقد أحست المرأة بالدفء فكشرت عن أنيابها للفتى .. تبعثر ماله .. وتلوث سمعته .. وهو غارق في حبها.
وبدأت الدنيا تدبر عنه .. فنفذ ماله .. وقل خطره .. وساءت سمعته .. وأخذ يعود كما كان مغموراً منسياً وهو قانع من كل هذا بحبه وهواه .. حتى كان ذات يوم أنزلت به ضربتها الأخيرة.
وكانت الصدمة قاسية أصيب منها بالذهول .. فهام على وجهه بعد أن فقد ماله وشهرته وحبه .. وانتهى به الأمر إلى أن جاع فسرق ليسد رمقه -كما فعلت الفتاة- وألقي به في السجن.
وصهر السجن نفس الفتى فبدأ يعود إلى وعيه .. وأدرك أن ضعفه هو الذي ألقى به إلى التهلكة .. فعزم على أن يعود إلى سابق قسوته وجموده .. وأن يحاول الخوض في معركة الحياة، فلعله بالغ مرة أخرى ما كان قد بلغ.
وأطلق سراحه في صباح يوم مشرق وخرج إلى الطريق يرسم في رأسه خططه المقبلة .. ولكنه رأى ما أذهله وقلب تدابيره رأساً على عقب.
رأى المرأة تنتظره وقد أطرقت برأسها في هدوء وصمت ورفعت إليه عينين تفيض منهما الدموع .. لقد عادت إليه تطلب المغفرة.
وأحس الفتى أنه قد أضحى مسلوب الإرادة .. وتطاير من رأسه كل ما رسمه من خطط .. وخانه ذلك الجمود وتلك القسوة .. وانقاد لها كأنه طفل غرير.
وقادته المرأة إلى ذلك البيت الذي كان يزورها فيه خلسة. جلسا حيث تعودا أن يرتشفا كئوس الحب حلوة مترعة .. ونظرت إليه في سكون تستغفره .. فلم يسعه إلا أن يغفر .. ومد يده فتخلل شعرها بأصابعه .. ثم أمسك بوجهها الصغير بين كفيه ووضع شفتيه ببطء على شفتيها .. واختلطت أنفاسها بأنفاسه .. وراحا في نشوة ..
وهبت على البقعة النائية .. موجة من الريح هائجة عاتية .. وسمع من خلالها صوت يزمجر مغضباً:
- ويل للإنسان الأحمق المأفون .. لقد أطاح بسلطاني وسلطانك .. ولم يبق على مال ولم يبق على شهرة ..
وأجابه صوت ناعم رقيق:
- لن أجيبك بشئ .. بل سأدع الفتى نفسه يجيبك.
وهمس الفتى في أذن الفتاة:
لا أريد في هذه الدنيا مالاً .. ولا شهرة .. أريدك أنت .. أريد الحب .. فكل شئ ما خلا الحب عبث!
هبت على تلك البقعة ريح خفيفة أخذت تعبث بأوراق الشجر، ثم اشتدت الريح رويداً وحملت في طياتها همساً ما زال يشتد حتى أضحى جدلاً صاخباً، وحواراً عنيفاً بين ثلاث قوى تتنازع الحكم وتزعم لنفسها السلطان.
هتفت إحداها بصوت حلو رنان:
- أي سلطان في هذه الحياة لغيري، من الذي أذل الأعناق واسترق النفوس سوى سلطان المال، من الذي ملك على اإنسان عقله وسلبه رشده، من الذي تحكم فيه فحركه كما يشاء، من الذي عبده الإنسان من دون الله؟
وأجاب صوت ساحر نفّاذ يصل إلى أعماق النفوس:
- أنا الذي ملكت على الإنسان نفسه، أنا الذي أضاع الإنسان عمره في البحث عنه، سل أي امرئ عن الشهرة، يجبك أنها أمتع شئ في هذه الحياة، سل أي امرئ عن اللذة التي يشعر بها عندما يشير إليه الناس ويهمسون: "هذا هو الرجل العظيم"، وخيره بين شهرته وبين أن تهبه مال قارون، تجده يضرب بسلطان المال عرض الحائط، ويقبض على الشهرة بالنواجذ.
- يا للغباء ! إن صاحب المال لا يعجز عن ابتياع الشهرة.
- قد يستطيع ابتياع الشهرة الكاذبة الزائفة، أما الشهرة الحقة، فهي هبة أغدقها على من يروقني تمييزهم عن غيرهم من الناس.
وهنا قال صوت ثالث، يفيض بالرقة والعذوبة كأنه لحن يطرب النفوس ويهز القلوب:
- يا للحمق والغرور ! تتحثان عن سلطانكما، وهو ذرة في سلطاني، ألم تسمعا الإنسان يقول: "الحياة الحب والحب الحياة"، أسمعتماه مرة يقول إن الحياة هي المال أو الحياة هي الشهرة؟ سلا أي امرئ عن من غيّر الكون في عينيه فجعله ناضراً مزدهراً، سلاه عمن ملأه بالقوة والأمل، وعمن أضاء له سبيل الحياة بعد ظلمة حالكة، سلاه عن سلطان الحب، وهل ينتصر في هذه الدنيا سواه؟
واحتدمت المناقشة واشتد الجدل، واختلطت الأصوات حتى لم يعد المرء يميز فيها سوى خليط من الصيحات والصرخات، وأخيراً سمع صوت سلطان الحب وهو يهتف:
- إني أتحداكما، وأقبل النزال، ليس فقط مع أحدكما، بل مع كليكما، لتتحدا سوياً ولتأتلفا معاً، فتكونا حليفين، وأنا زعيم بأن أبرهن لكما على أن سلطانكما الذي تدعيانه هباء في هباء.
وتحالف سلطان المال وسلطان الشهرة، وقبلا ذلك التحدي من سلطان الحب، واتفق الفريقان على أن يحشد كل منهما قواه ويشحذ أسلحته، على أن يكون اللقاء في ميدان للقتال تم الاتفاق عليه.
* * *
نحن الآن في ميدان القتال، وهو ليس بنجاد ولا وهاد، ولا حقول ولا صحراء، بل هو مخلوق آدمي اختارته القوى الثلاث ليكون مظهراً لقدرتها ومقياساً لسلطانها، والرابح من الفريقين من استطاع السيطرة عليه والتحكم فيه وطرد الفريق الآخر من قرارة نفسه فاشلاً مخذولاً.
وكان ميدان القتال فتى في مقتبل العمر، مليء النفس بالأمل. ولكن تصاريف الحياة كدته وأوهنت قواه، وتركته حائراً مغموراً.
استلقى الفتى على فراشه خاوي البطن والذهن والفؤاد، ونظر من خلال النافذة إلى النجوم التي تلمع في ظلمة السماء، وسأل نفسه عما يأمل في هذه الحياة .. وأي خير يرجوه منها إذا استمر هذا الجوع، جوع القلب وجوع النفس !.
لقد كان أشد ما يؤلمه أن يرى نفسه مهملاً في ميدان الحب، فما من فتاة أقبلت عليه مرة، وما من فتاة أنعمت عليه بابتسامة، فكلهن ينفرن منه ويتجنبنه ويعاملنه بالغلظة والقساوة.
ترى هل ذلك لعجزه عن استمالتهن، أم أن السبب قلة ماله، أو قلة وسامته؟
* * *
وعصف اليأس بنفس الفتى، وفاض به الشجن، فقد كان فشله في اجتذاب الجنس الآخر يوهن من نفسه، ويحط من قوته.
وخيل إليه فجأة أن النافذة تحمل إليه صوتاً يسري مع النسيم، فأنصت، فإذا الصوت يهتف به:
- أيها التافه الأحمق، ماذا يخيفك منهمن وماذا يفزعك، وهن أحقر من أن يجلبن الوجيعة والألم ! أخرجهن من قلبك، فمكانهن تحت القدم، لا داخل القلب، أقبل على نفسك، فهي أحق منهن بالإقبال، إياك وما يسمونه الحب، فهو بريق زائف وسراب خلب، لا تجر وراء أوهام كاذبة وأحلام تمحوها اليقظة، سر في الحياة بلا قلب، فما اتفق القلب والعقل قط، واقتل ما في نفسك من شعور وإحساس فإنها سوس ينخر عظامك، وجراثيم تفتك بجسدك، ولو برأت منها لاستطعت أن تمسك الدنيا كلها بين يديك، ولأصبحت خير الرجال في هذه الأرض.
* * *
ومنذ ذلك اليوم والفتى تغير وتبدل، وغاضت من نفسه الرقة ونضب الشعور، وأضحى يقابل جفاء النساء بجفاء مثله وأشد، وأغمض عينيه عن كل ما فيهن من إغراء وفتنة .. وبدأ يسير في الحياة وهو مغلق القلب جامد الحس .. وأخذت تلك القوة الكامنة في قلبه تتسرب إلى رأسه .. وتحول جهاده في الحب إلى جهاد في سبيل المال والشهرة.
لقد خيل إليه أن به نقصاً يصرف ربات الجمال عنه، فصمم على أن يكون شيئاً في هذه الحياة .. أو لا يكون قط.
* * *
ودهش الناس لما أصاب الفتى .. فقد بدأ الحظ يبتسم له .. وبدا لهم منه نبوغ وعبقرية .. ومرت الأيام فإذا الفتى المغمور قد أضحى نجماً ساطعاً .. وإذا به صاحب منصب خطير ومال وفير.
واشتهر الفتى بشدة كرهه للنساء ونفوره منهن .. فقد كان يحذرهن كما يحذر السليم الأجرب .. ويتجنبهن كما يتجنب المرء أفعى ذات سم زعاف.
* * *
وهبت الريح في البقعة النائية .. فحملت ضوت سلطاني المال والشهرة وفيه نشوة الانتصار، وقال أولهما للآخر:
- يا لسلطان الحب الأحمق المغرور! أية هزيمة منكرة تلك التي حاقت به .. لقد انهارت سطوته وزال ملكه .. وعرف الإنسان أنه مخادع محتال .. واكتشف أن نعيمه زيف وبريقه خداع ..
وفي تلك اللحظة كان الفتى يقف وعلى وجهه عبوس وفي نظراته جد وقسوة .. وقد ركعت أمامه فتاة بالية الثياب رثة المنظر، بدت في وجهها صفرة مرض وبؤس وفاقة وقد أخذ جسدها يهتز من فرط البكاء وهي تصيح:
- إني لم أجرم ولم أسرق .. إنني أريد أن أعيش .. أريد ما أسد به رمقي.
ولم يلن وجه الفتى ولم تبد عليه بادرة شفقة أو رحمة، بل أشار بيده إلى بعض الخدم فأبعدوها عن أقدامه .. وزج بها في السجن فقد كانت سارقة أثيمة.
وخلا الفتى إلى نفسه فأحس بخلجة في قلبه .. فقد بدأ يتحرك بعد طول سكون .. كان فظاً قاسياً على الفتاة المسكينة فلم يرحم ضعفها وبؤسها .. لقد صمم على أن يعرض عن النساء وقسو عليهن .. ولكن هذه ليست امرأة .. إنها هيكل بائس محطم .. دفعه بقية أمل في الحياة إلى أن يسرق ليسد رمقه .. لشد ما أخطا فيما فعل .. لقد كان جامد الحس والقلب والعقل !!
ولم ينم الفتى ليلته .. واشتد به وخز الضمير .. وذهب عنه ذلك الجحود والقسوة .. وعاد إليه قديم رقته.
وكان أول ما فعله أن راح يزور الفتاة في سجنها خفية .. ليخفف من لوعتها ويرفه عنها .. وتكررت زيارته لها .. إذ تبين فيها نفساً رقيقة .. شديدة الصفاء .. وتبين أكثر من ذلك أن بالفتاة فتنة أخفتها الفاقة .. وسحراً حجبه البؤس المضني.
ومرت الأيام فإذا بالفتى الحذر قد كلف بالفتاة وأحبها.
واستمر بعد ذلك يزورها في بيت أبقاها فيه تحت جنح الظلام .. حتى ملّ أخيراً ذلك التستر .. وعزم على أن يرفعها حيث هو .. وقرر الزواج منها .. ضارباً بأقوال الناس عرض الحائط.
وأخذت المرأة بمظاهر النعمة والرفاهة، وأغراها الجاه والمال .. فإذا بها تصنع بالفتى ما صنعت الأفعى بالرجل الذي حملها من البرد القاتل فأدفأها في داره .. فما أن أحست بالدفء وانتعشت؛ حتى كان الرجل أول من لدغته .. أجل لقد أحست المرأة بالدفء فكشرت عن أنيابها للفتى .. تبعثر ماله .. وتلوث سمعته .. وهو غارق في حبها.
وبدأت الدنيا تدبر عنه .. فنفذ ماله .. وقل خطره .. وساءت سمعته .. وأخذ يعود كما كان مغموراً منسياً وهو قانع من كل هذا بحبه وهواه .. حتى كان ذات يوم أنزلت به ضربتها الأخيرة.
وكانت الصدمة قاسية أصيب منها بالذهول .. فهام على وجهه بعد أن فقد ماله وشهرته وحبه .. وانتهى به الأمر إلى أن جاع فسرق ليسد رمقه -كما فعلت الفتاة- وألقي به في السجن.
وصهر السجن نفس الفتى فبدأ يعود إلى وعيه .. وأدرك أن ضعفه هو الذي ألقى به إلى التهلكة .. فعزم على أن يعود إلى سابق قسوته وجموده .. وأن يحاول الخوض في معركة الحياة، فلعله بالغ مرة أخرى ما كان قد بلغ.
وأطلق سراحه في صباح يوم مشرق وخرج إلى الطريق يرسم في رأسه خططه المقبلة .. ولكنه رأى ما أذهله وقلب تدابيره رأساً على عقب.
رأى المرأة تنتظره وقد أطرقت برأسها في هدوء وصمت ورفعت إليه عينين تفيض منهما الدموع .. لقد عادت إليه تطلب المغفرة.
وأحس الفتى أنه قد أضحى مسلوب الإرادة .. وتطاير من رأسه كل ما رسمه من خطط .. وخانه ذلك الجمود وتلك القسوة .. وانقاد لها كأنه طفل غرير.
وقادته المرأة إلى ذلك البيت الذي كان يزورها فيه خلسة. جلسا حيث تعودا أن يرتشفا كئوس الحب حلوة مترعة .. ونظرت إليه في سكون تستغفره .. فلم يسعه إلا أن يغفر .. ومد يده فتخلل شعرها بأصابعه .. ثم أمسك بوجهها الصغير بين كفيه ووضع شفتيه ببطء على شفتيها .. واختلطت أنفاسها بأنفاسه .. وراحا في نشوة ..
وهبت على البقعة النائية .. موجة من الريح هائجة عاتية .. وسمع من خلالها صوت يزمجر مغضباً:
- ويل للإنسان الأحمق المأفون .. لقد أطاح بسلطاني وسلطانك .. ولم يبق على مال ولم يبق على شهرة ..
وأجابه صوت ناعم رقيق:
- لن أجيبك بشئ .. بل سأدع الفتى نفسه يجيبك.
وهمس الفتى في أذن الفتاة:
لا أريد في هذه الدنيا مالاً .. ولا شهرة .. أريدك أنت .. أريد الحب .. فكل شئ ما خلا الحب عبث!
"انتصار"
يوسف السباعي