TAFATEFO
كان الأمر كله صورة مصغرة لحالة المجتمع المصري ككل: مجتمع مكتظ بالسكان، لا ينتج ما يكفي لتوفير حياة لائقة للجميع، فيتنافس الجميع على الكسب المادي ويحاولون دون جدوى إخفاء هذه المنافسة والتظاهر بعكسها. وحدّة هذه المنافسة تضعف بشدة من احتمال وجود أي تعاطف حقيقي، إذ أنّ الجهد المطلوب لتحقيق الهدف لا يترك بقية للتعاطف الحقيقي مع الآخرين. هذه الأعداد الغفيرة من السكان هي المسئولة في النهاية عن هذا التنافس الحاد، ولكنها هي نفسها التي تخلق فرصاً لزيادة الكسب المادي إذا استطاع المرء أن ينتج سلعة تحتاج إليها هذه الأعداد الغفيرة، كالكتب الجامعية مثلاً.

كان التكالب على تدريس المقررات الدراسية في الفصول ذات الأعداد الكبيرة من الطلاب يصل أحياناً غلى درجة يصعب على العقل تصديقها. كما كانت المنافسة بين الأساتذة على التدريس في هذه الفصول تكوّن المحور الأساسي الذي تدور حوله أحاديثهم. حضرت مرة جلسة من جلسات مجلس الكلية، بعد ترقيتي إلى درجة أستاذ مساعد، حيث طرحت مسألة الخلاف بين قسمين من أقسام الكلية حول من الذي يقوم بتدريس مقرر باللغة الفرنسية أدخل حديثاً في الكلية. كان القسمان يتنافسان على الاستقلال بتدريس هذا المقرر ويقدم كل منهما الحجج لتأييد أحقيته به. لم يذكر من بين هذه الحجج ما يدره هذا المقرر من كسب مالي، مع أن جميع الحاضرين والمناقشين كانوا يعرفون جيداً أنّ هذا هو السبب الوحدي لهذه المنافسة الحادة. وبعد أن استمرت المنافسة فترة طويلة دون أن يتنازل أحد القسمين عن موقفه، تجرأ استاذ عجوز ممن لا ينتسب إلى هذا القسم أو ذاك، وممن رأوا عهداً ماضياً من عهود الجامعة في مصر لم يكن للكسب المادي فيه هذه الأولوية العالية، بل كان الأساتذة فيه يتنافسون في الأساس على أشياء أخرى غير المال، تجرأ هذا الأستاذ العجوز وسأل ببراءة عما إذا كان الأستاذان المتنافسان يجيدان اللغة الفرنسية التي سوف يدرس بها هذا المقرر. فإذا بنا نكتشف أن مستوى كل منهما في هذه اللغة لا يسمح مطلقاً بقيامهما بتدريس هذا المقرر. سألت نفسي عندئذٍ: "كيف سيكون حال هذه الكلية عندما يتوفى هذا الأستاذ العجوز وأمثاله ممن لا يزالون يتذكرون ماضياً أقل تعاسة؟".
ماذا علمتني الحياة؟
جلال أمين
0 تعليقات