TAFATEFO
وكان مستنير الذهن لم يعبأ بما يقوله شيوخ الأزهر في الشيخ محمد عبده من رمي بالزندقة والإلحاد، فكان يحضر دروسه في تفسير القرآن ويسمع منه كتاب دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، وكثيراً ما ألحّ عليّ أن أحضر دروس الشيخ معه فآبى، استصغاراً لعقلي مع عظم دروسه، ولأن ذلك يضطرني أن أبقى في الأزهر إلى ما بعد العشاء، إذ كانت دروس الشيخ تبتدئ بعد صلاة المغرب وتستمر إلى أذان العشاء، وأخيراً تغلب عليّ وشوقني إلى دروسه بما كان ينقل إليّ من آرائه، فحضرت درسين اثنين، فسمعت صوتاً جميلاً ورأيت منه منظراً جليلاً، وفهمت منه ما لم أفهم من شيوخي الأزهريين، وندمت على ما فاتني من التلمذة عليه، واعتزمت أن أتابع دروسه، ولكن كان هذان الدرسان هما آخر دروسه رحمه الله.

وكانت دروسه مملوءة بالفكاهات الظريفة. فمرة مثلا دخلت في الدرس فتاة صغيرة تريد أن تسرّ إلى أبيها كلاماً فجلست بجانبه. وكانت هذه الأيام أيام حركة قاسم أمين، فقال الشيخ: إن هذه هي المرأة الحديدية. إذ كان قاسم أمين ألف كتاباً أسماه << المرأة الحديدية >>، ومرة حضرت درساً للشيخ ولم أفهم بعض العبارات، وسألت صاحبي عنها فلم يفهمها فاتفقنا على أن نكتب له خطاباً، وكانت هذه عادة جارية، واخترنا أن نمضي الخطاب بحرف من اسمي وهو الميم وحرف من اسم صاحبي وهو الراء، فجاء الشيخ بعد أن استلم الخطاب وقال: جاءني خطاب من شيخ اسمه مٌرْ أو مرٍ ولم يفهم، ثم أخذ يشرح ما غمض علينا في أدب ووضوح. وكان دائما يلخص لنا ما ورد إليه من خطابات هامة. وأذكر أنه أتاه خطاب يهدده بالقتل لأنه كافر ملحد، وبعد أن قص علينا القصة قال:
لتمنيت أن يكون هذا صحيحاً، فيوم يشجع المصري ويقتلني، أكون فخوراً،
ثم أنشد قول القائل:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا
أبشر بطول سلامة يا مربع
أحمد أمين
(حياتي)
0 تعليقات